كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الزمخشري: فإن قلتَ: كيف أَخَلَّ بالعاطف في الجمل الأُوَل وجِيْءَ به بعدُ؟ قلت: بَكَّتَ بالجملِ الأُوَلِ واردةً على سَنَنِ التعديد الذين أنكروا الرحمنَ وآلاءَه كما يُبَكَّتُ مُنْكِرُ أيادي المُنْعَمِ عليه من الناسِ بتعدُّدها عليه في المثالِ الذي قَدَّمْتُه، ثم رَدَّ الكلامَ إلى منهاجِه بعد التبكيت في وَصْلِ ما يجب وَصْلُه للتناسُبِ والتقارُب بالعاطفِ. فإنْ قلت: أيُّ تناسُبٍ بين هاتَيْنِ الجملتَيْن حتى وَسَّط بينهما العاطفَ؟ قلت: إن الشمسَ والقمرَ سماويان، والنجمَ والشجرَ أَرْضيان فبينهما تناسُبٌ من حيث التقابلُ، وأن السماءَ والأرضَ لا تزالان قرينتَيْن، وأنَّ جَرْيَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبان مِنْ جنسِ الانقيادِ لأمرِ اللهِ، فهو مناسِبٌ لسُجودِ النجمِ والشجرِ.
{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)}.
قوله: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ}: في (أن) هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها الناصبةُ، و(لا) بعدها نافيةٌ، و{تَطْغَوْا} منصوبٌ ب (أن)، وأنَّ قبلَها لامَ العلةِ مقدرةً، تتعلَّقُ بقوله: {ووَضَع الميزانَ} التقدير: لئلا تَطْغَوا، وهذا بَيِّنٌ. وأجاز الزمخشريُّ وابنُ عطية أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ، وعلى هذا تكونُ (لا) ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها. إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّه: بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ جملةٍ متضمنةٍ لمعنى القول، وليسَتْ موجودةً. قلت: وإلى كونِها مفسِّرةً ذهبَ مكي وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ كأنَّه تَنَبَّه للاعتراضِ فقال: وأَنْ بمعنى أَيْ، والقول مقدَّرٌ، فجعل الشيءَ المفسَّرَ ب (أن) مقدَّرًا لا ملفوظًا بها، إلاَّ أنه قد يُقال: قوله (والقول مقدَّرٌ) ليس بجيدٍ، لأنها لا تُفَسِّرُ القول الصريحَ، فكيف يُقَدِّر ما لا يَصِحُّ تفسيرُه؟ فإِصْلاحُه أَنْ يقول: وما هو بمعنى القول مقدرٌ.
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}.
قوله: {وَلاَ تُخْسِرُواْ}: العامَّةُ على ضَمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مِنْ أَخْسَرَ، أي: نَقَصَ كقوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاءِ وكسرِ السين فيكون فَعَلَ وأَفْعَلَ بمعنىً. يقال: خَسِر الميزانَ وأخسَره، بمعنىً واحدٍ نحو: جَبَر وأَجْبَر. ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال فتحَ التاءِ والسينِ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه على حَذْفِ حرفِ الجر تقديره: ولا تَخْسَروا في الميزان. ذكره الزمخشري وأبو البقاء: إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ (خَسِرَ) جاء متعديًا. قال تعالى: {خسروا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 12]. و{خَسِرَ الدنيا والآخرة} [الحج: 11]. قلت: وهذا ليس مِنْ ذاك. ألا ترى أنّ {خَسِروا أنفسَهم} {وخَسِر الدنيا والآخرةَ} معناه: أنَّ الخُسْران واقعٌ بهما، وأنَّهما معدومان. وهذا المعنى ليس مُرادًا في الآيةِ قطعًا، وإنما المرادُ: لا تُخْسِروا الموزونَ في الميزان. وقرئ: {تَخْسُروا} بفتح التاء وضمِّ السينِ. قال الزمخشري: وقرئ {ولا تَخْسروا} بفتح التاء وضم السين وكسرِها وفتحِها. يقال: خَسِر الميزانَ يَخْسِره ويَخْسُره. وأمَّا الفتحُ: فعلى أنَّ الأصلَ {في الميزان} فحذف الجارَّ ووصلَ الفعلَ إليه. وكَرَّر لفظ الميزان، ولم يُضْمِرْه في الجملتَيْن بعده تقويةً لشَأْنِه وهذا كقوله:
لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ** نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا

{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)}.
قوله: {والأرض وَضَعَهَا}: كقوله: {والسماء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7]. وقرأ أبو السَّمَّال بالرفع مبتدًا. و{للأَنام} علةٌ للوَضْع. والأَنام. قيل: الحيوان. وقيل: بنوا آدمَ خاصةً. وقيل: هم الإِنسُ والجنُّ، ووزنُه فَعال كقَذال، فيُجْمع في القلة على آنِمَة بزنة: امرأةٌ آثِمة وفي الكثرة: على أُنُم، كقَذال وأَقْذِلَة وقُذُل.
{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)}.
قوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ}: يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ حالًا من الأرض، إلاَّ أنَّها حالٌ مقدَّرَةٌ. ويجوزُ وهو الأحْسَنُ أَنْ يكونَ الجارُّ والمجرورُ هو الحالَ، و{فاكهةٌ} رَفْعٌ بالفاعليَّةِ، ونُكِّرَتْ؛ لأنَّ الانتفاعَ بها دونَ الانتفاعِ بما ذُكِرَ بعدها، وهو من باب الترقِّي مِنْ الأَدْنى إلى الأعلَى، والأَكْمام: جمعُ كِمّ بالكسر وهو وعاءُ الثمرة.
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)}.
قوله: {والحب ذُو العصف والريحان}: قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: النصبُ على الاختصاص، أي: وأخُصُّ الحبَّ، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ. الثاني: أنَّه معطوفٌ على الأرض. قال مكي: لأنَّ قوله: {والأرضَ وَضَعَها}، أي: خلقها، فعطف {الحَبَّ} على ذلك. الثالث: أنَّه منصوبٌ ب (خَلَق) مضمرًا، أي: وخلق الحَبَّ. قال مكي: (أو وخَلَقَ الحَبَّ) وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده، فإنَّ مصاحفَ الشامِ (ذا) بالألف. وجَوَّزوا في {الريحانِ} أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وذا الريحان فحُذِفَ المضافُ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ {الريحانِ} عطفًا على {العَصْفِ}، وهي تؤيِّدُ قول مَنْ حذفَ المضافَ في قراءة ابنِ عامرٍ. والباقون برفع الثلاثةِ عطفًا على {فاكهة}، أي: وفيها أيضًا هذه الأشياءُ. ذكر أولًا ما يتلذَّذُون به من الفواكه، وثانيًا الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ، وثالثًا ما يَتَغَذَّى به فقط، وهو أعظمُها، لأنه قُوْتُ غالبِ الناسِ. ويجوز في {الرَّيْحان} على هذه القراءة أَنْ يكونَ معطوفًا على ما قبلَه، أي: وفيها الرَّيْحانُ أيضًا، وأَنْ يكونَ مجرورًا بالإِضافةِ في الأصلِ، أي: وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم.
و{العَصْفُ}: وَرَقُ الزَّرْعِ. وقيل: التِّبْنُ. وأصلُه كما قال الراغب: مِن العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ، أي: يُقْطَعُ من الزَرْع. وقيل: هو حُطامُ النباتِ. والريحُ العاصف: التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك. والرَّيْحان في الأصل: مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم: (سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه)، أي: استِرْزاقُه وقيل: الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ.
وفي الرَّيْحان قولان، أحدُهما: أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ. والأصلُ: رَوْحان. قال أبو علي: فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً، كما أَبْدَلوا الياءَ واوًا في (أَشاوى).
والثاني: أن يكون أصلُه رَيْوِحان، على وزن فَيْعِلان، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا: كَيْنُوْنة وبَيْنُونة. والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت. قال مكي: ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ. ثم رَدَّ قول الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال: وقال بعضُ الناسِ. فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}.
قوله: {فَبِأَيِّ}: متعلقٌ ب {تُكذِّبان} والعامَّةُ على إضافة (أيّ) إلى الآلاء. وقُرِىء في جميع السورة بتنوينِ (أيّ) وتخريجُها: على أنه قَطَع أيًَّا عن الإِضافةِ إلى شيء مقدر، ثم أَبْدَل منه {آلاء ربِّكما} بدلَ معرفةٍ مِنْ نكرةٍ. وتقدَّم الكلامُ في (الآلاء) وما مفردُها في الأعراف ولله الحمد. والخطابُ في {رَبِّكما} قيل: للثَّقَلَيْن من الإِنس والجنِّ، لأنَّ الأنامَ يتضمَّنُهما على القول المشهور. وقيل: للذكر والأنثى. وقيل: هو مثنَّى مُرادٌ به الواحدُ، كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] وقول الخبيث الثقفي: (يا حَرَسيُّ اضْربا عُنُقَه) وقد تقدَّم ما فيه. و{كالفَخَّار} نعتٌ لصَلْصال وتقدَّم تفسيرُه.
{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)}.
والجانُّ قيل: هو اسم جنس كالإِنسان. وقيل: هو أبو الجنِّ إبليسُ. وقيل: هو أبوهم وليس بإبليسَ.
قوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} {مِنْ} الأولى لابتداء الغاية. وفي الثانيةِ وجهان، أحدهما: أنها للبيانِ. والثاني: أنها للتبعيض. والمارِجُ قيل: ما اختْلَطَ مِنْ أحمرَ وأَصفَر وأخضرَ، وهذا مُشاهَدٌ في النار، تُرى الألوانُ الثلاثةُ مختلِطًا بعضُها ببعض. وقيل: الخالِصُ. وقيل: الأحمرُ. وقيل: الحُمْرَةُ في طرفِ النار. وقيل: المختلطُ بسواد. وقيل: الخالصُ. وقيل: اللهبُ المضطربُ. و{مِنْ نار} نعتٌ ل {مارج}. وقوله: {فبأيِّ} إلى آخره. توكيدٌ وتكريرٌ، كما تقدَّم في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن} [القمر: 21] وكقوله فيما سيأتي: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15]. وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ قتيبة إلى أنَّ التكريرَ لاختلافِ النِّعَم، فلذلك كَرَّر التوقيفَ مع واحدةٍ واحدةٍ.
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)}.
قوله: {رَبُّ المشرقين}: العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ، خبرُه {مَرَج البحرَيْن} وما بينهما اعتراضٌ. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هوَ رَبُّ أي: ذلك الذي فَعَلَ هذه الأشياء. والثالث: أنه بدلٌ من الضمير في (خَلَق). وابن أبي عبلة {ربِّ} بالجر بدلًا أو بيانًا ل (ربِّكما). قال مكي: ويجوزُ في الكلام الخفضُ على البدلِ مِنْ (ربِّكما) كأنَّه لم يَطَّلعْ على أنها قراءة منقولةٌ والمَشْرقان، قيل: مَشرِقُ الشتاءِ والصيفِ ومَغْرباهما. وقيل: مَشْرقا الشمس والقمر ومَغْربهما. وقيل: مَشرقا الشمس فقط ومَغْرباها. قال الشيخ: وعن عباس: للشمس مَشْرِقٌ في الصيفِ مُصْعِدٌ، ومَشْرِقٌ في الشتاءِ مُنْحَدرٌ، تنتقل فيهما مُصْعِدةً ومُنحَدرة. وقال الشيخ: فالمشرقان والمغربان للشمس. قلت: وهذا هو القول الذي يقول: مَشْرِقُ الصيفِ ومَشْرِقُ الشتاء فإنه إنَّما يعني بهما شُروق الشمسِ والقمرِ فيهما، أو شروق الشمسِ وحدَها فيهما، فهو داخلٌ في أحدِ القوليْن المذكورَيْن ضرورةً.
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)}.
قوله: {يَلْتَقِيَانِ}: حالٌ من {البحرَيْنِ} وهي قريبةٌ من الحال المقدرةِ. ويجوز بتجوُّزِ أَنْ تكونَ مقارنَةً. و{بينهما بَرْزَخٌ} يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ حالًا، وأَنْ يكونَ الظرفُ وحدَه هو الحالَ. والبَرْزَخ: فاعلٌ به وهو أحسنُ لقُرْبه من المفرد. وفي صاحبِ الحال وجهان، أحدُهما: هو {البحرَيْن}، والثاني: هو فاعلُ {يَلْتقيان} ولا {يَبْغِيان} حالٌ أخرى كالتي قبلَها أي: مَرَجَهما غيرَ باغيَيْن، أو يلتقيان غيرَ باغيين، أو بينهما بَرْزَخٌ في حالِ عَدَمِ بَغْيهما. وهذه الحالُ في قوة التعليل؛ إذ المعنى: لئلا يَبْغِيا. وقد تَمَحَّل بعضُهم وقال: أصلُ ذلك لئلا يَبْغِيا، ثم حَذَفَ حرفَ العلة، وهو مُطَّرِدٌ مع (أن) و(أن)، ثم حُذِفَتْ (أن) أيضًا وهو حَذْفٌ مُطَّرِد كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] فلمَّا حُذِفَتْ (أن) ارتفع الفعلُ، وهذا غيرُ ممنوعٍ، إلاَّ أنه يتكرَّرُ فيه الحَذْفُ، وله أَنْ يقول: قد جاء الحَذْفُ أكثرَ مِنْ ذلك فيما هو أَخْفَى من هذا، كما تقدَّم في {قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9]، وكما سيأتي في قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة: 82].
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)}.
قوله: {يَخْرُجُ}: قرأ نافع وأبو عمرو {يُخْرَج} مبنيًا للمفعول. والباقون مبنيًا للفاعل على المجاز. قالوا: وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: مِنْ أحدِهما؛ لأنَّ ذلك لم يُؤْخَذْ من البحرِ العَذْبِ، حتى عابُوا قوله:
فجاءَ بها ما شِئتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ ** على وَجْهِها ماءُ الفُراتِ يموجُ

قال مكي: كما قال تعالى: {على رَجُلٍ مِّنَ القريتين} [الزخرف: 31] أي: مِنْ إحدى القريَتيْن، وحَذْفُ المضافِ كثيرٌ شائعٌ. وقيل: هو كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما الناسِي فتاه، ويُعْزَى هذا لأبي عبيدة. وقيل: يَخْرُجُ من أحدِهما اللؤلؤ، ومن الآخر المَرْجانُ. وقيل: بل يَخْرجان منهما جميعًا، ثم ذكروا تآويلَ منها: أنهما يَخْرُجان من المِلْح في الموضعِ الذي يقع فيه العَذْبُ، وهذا مشاهَدٌ عند الغوَّاصين، وهو قول الجمهورِ فناسَبَ ذلك إسنادَه إليهما. ومنها قول ابنِ عباس: تكون هذه الأشياءُ في البحرِ بنزول المطر، والصَّدَفُ تفتح أفواهَها للمطر وقد شاهده الناسُ. ومنها: أنَّ العَذْبَ في المِلْح كاللِّقاح كما يُقال: الولدُ يخرُجُ من الذَّكر والأنثى. ومنها أنه قيل {منهما} من حيث هما نوعٌ واحدٌ، فخروجُ هذه الأشياءِ إنما هي مِنْهما، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] وإنما هو في واحدةٍ منهن.
وقد الزمخشري: فإنْ قلتَ: لِمَ قال: {منهما} وإنما يَخْرجان من المِلْح؟ قلت: لَمَّا التَقَيا وصارا كالشيء الواحدِ جاز أَنْ يُقال: يَخْرجان منهما، كما يقال: يَخْرجان من البحر ولا يَخْرجان من جميع البحر، وإنما يخرجان مِنْ بعضِه. وتقول: خَرَجْتُ من البلد، وإنما خَرَجْتُ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ محالِّه، مِنْ دارٍ واحدة من دُوْره. وقيل: لا يخرجان إلاَّ مِنْ ملتقى المِلْح والعَذْب. انتهى. وقال بعضُهم: كلامُ الله أَوْلى بالاعتبارِ من كلامِ بعض الناس فمن الجائز أنه يَسُوقُها من البحرِ العَذْب إلى المِلْحِ، واتفق أنهم لم يُخْرجوها إلاَّ من المِلْح، وإذا كان في البرِّ أشياءُ تَخْفَى على التجار المتردِّدين القاطعِين للمَفاوُز، فكيف بما في قَعْر البحرِ؟ والجوابُ عن هذا: أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُخاطِبُ الناسَ ولا يَمْتَنُّ عليهم إلاَّ بما يَأْلَفُون ويشاهِدُون.